كل صباح تغرد البلابل على شباك غرفتي، بُعيد صلاة الفجر، تتجمع أصواتها بنغماتها الجميلة، لتقول إن هناك صبحاً يشرق رغم كل شيء، وأن الشمس لا زالت بخير وأنها قادمة بعد قليل.
كل صباح أفتح لها الشباك لأحييها، وقلبي يكاد يكون كقلب ذاك الثمل الذي قرأنا قصة القصيدة الرجزية صغاراً (صوت صفير البلبل)، قيل إن حاكماً بخيلاً، لديه جارية تحفظ القصيدة من أول مرة، وغلاما يحفظها من المرة الثانية، لذا فإن كل شاعر يقول قصيدة بين يديه، ينكر القصيدة عليه، وأنها سبق أن قيلت، ويقول: (يا جارية أسمعيه القصيدة).. فتقولها الجارية، وبعد أن تنتهي، يعيد: وحتى الغلام قد حفظها: اسمعه إياها.. وهكذا يخرج الشاعر خالي اليدين.. ولكن الشاعر (عبدالملك بن قريب الأصمعي) راوية العرب، صاحب صوت صفير البلبل، قرر أن يغلبهما، فقال القصيدة المشهورة التي حوت على لعب بالكلمات تكررا:
صوت صفير البلبل هيج قلب الثمل
الماء والزهر معاً مع حسن لحظ المقل..
قد طاب لي نوح الحمام قوقو بالزجل
حتى يقول:
والعود دندن دندنلي والطبل طب طب طبطلي
والرقص قد طبطبلي والسقف قد سقيقلي
شوشوا، شووا، وشاهشوا على ورق السفرجل
فلو تراني راكباً على حمار أهزل
يمشي على ثلاثة كمشية العرنجل
والناس ترجمجملي بالسوق بالبقلقلل
.. ينهيها بقوله:
نظمت قطعا زخرفت تعجز الأدبللي
اقول في مطلعها صوت صفير البلبل
ويقال ان الجارية والغلام عجزا، ولم يجد الملك بداً من إعطائه حلة ومالاً..
لكن ليست تلك فقط التي يذكرني بها أصوات بلابل الصباح، إنما أيضاً قصيدة الشاعر العراقي معروف الرصافي، سمعت صوتاً للعندليب.. هذه القصيدة التي لحنت ألحاناً خفيفة ولطيفة، سمعت ذات مرة الممثل العراقي (خليل العاني) يتغنى بها مدندنا على العود، لحناً خفيفاً وبسيطاً، كما سمعت الطفل العراقي الموهوب.. (بلال المهندس) يغنيها بصوته الطفولي العذب:
سمعت صوتاً للعندليب غنى على الغصن الرطيب:
العيش عندي فوق الغصون لا في قصور ولا حصون..
أطير من فرط وجد من غصن ورد لغصن وردي
أو فراس لم يذهب بعيداً كان حاضراً بعد أن طارت البلابل، لتخبرني اليمامات اللواتي حملن قصة حمامة سجنه، وهو يناجيها بقصيدة (أقول وقد ناحت بقربي حمامة)..
لكن مالي والبلابل والعصافير والحمام، ما بالها تعشش في ذاتي وتسمعني صوتها، وتنهش الذاكرة القديمة، وتهيج شجن الحاضر.. ما بال المعري يهاجمني قائلاً:
أبكت تلكم الحمامة أم غنت على فرع غصنها المياد
كل ذاك وغيره يهاجمني بما في ذلك أنشودة الثعلب المكار والديك..
برز الثعلب يوماً في ثياب
الواعظينا ومشى في الأرض يدعو ويسب الماكرينا
يقول يا عباد الله توبوا فهو خير التأبينا
حتى يصل ل :ودعوا الديك يؤذن لصلاة الصبح فينا..) وذلك تمهيداً لأكل الديك...
ها أنا أجمع من ذاكرتي أشعار الطيور، وهي كثيرة وواسعة وستحمل موسوعة كبيرة وسبب ذلك أن أخبار انفلونزا الطيور قد ظهرت بالشرقية، لذا علينا أن نهب سريعاً لحفظ سيرها وأوقات ظهورها وتكاثرها وأخبارها وما قيل عنها كتباً ومجلدات.. ونقول كان هناك طيور وعصافير ونوارس في الشرقية قبل ظهور انفلونزا الطيور..
وقديسما قيل، درهم وقاية خير من قنطار علاج.. لكننا تمدنا كثيراً لدرجة لم نعد نؤمن بالكلام القديم..
مشكلتي ستكون من سيعلمني أن الصبح الجديد ثوان ويصل.. وكيف وأين يأتيني صوت